تقدير النذير

حكى واتشمان ني، في كتابه (لا أنا بل المسيح)، قائلاً: عدت في عام 1929من شنغهاي إلي فوتشاو مسقط رأسي. وبينما كنت سائراً أتوكأ على عصاي في ضعف، إذ بي ألتقي بأحد أساتذتي القدامى في الكلية. وجلسنا على مقهى، فأخذ ينظر إليَّ ملياً، وقال: انظر! أثناء دراستك الجامعية بالكلية كنا، كأساتذة، نعلق عليك أمالاً كبيرة، فهل هذا ما وصلت إليه؟ وأحسست برغبة في البكاء، فعملي وماضيَّ وصحتي قد ذهبوا جميعًا. وها هو أستاذي القديم يسألني: هل ترضى بهذا الحال، بلا نجاح، بلا تقدم، بلا شيء؟! لكن، لم تمض لحظات، حتى اختبرت بالحق ماذا يعني أن يحل عليَّ روح المجد. كما هو مكتوب: «إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ واللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ.» (1 بط 4: 14).

وأحسست أنني، بنعمة الرب، استطعت أن أسكب حياتي لأجل الرب، وقد حل عليَّ روح المجد، بصورة لا مثيل لها. فرفعت نظري، وصرخت بلا تحفُظ: يا رب، أشكرك! هذا أعظم شيء في الوجود، وما سلكته كان الطريق الصحيح! لقد كان، بالنسبة لأستاذي، إتلافًا لحياتي أن أصرفها في خدمة الرب. ولكن، هذه هي غاية الإنجيل.

صديقي: إذا كانت مريم أخت مرثا ولعازر، مثالاً رائعاً للتكريس، فهي أيضًا مثال واضح لقيمة التكريس في نظر العالم، وللأسف حتى في عين المؤمنين الجسديين! فالعالم لا يُقَدر التكريس ولا المُكَرس لأنه لا يُقَدِّر الشخص العظيم الذي نكرس له الحياة. ولكن، في ذات الوقت، مريم أيضًا مثال واضح لما هو تقدير التكريس في عيني الرب يسوع. فتعالَ؛ لنرى ما فعلته مريم:

أولاً: جاءت بقارورة طيب محفوظ:

ما أحلى أن نحفظ الأوقات والعواطف وكل غالٍ في الحياة له، كالعروس التي قال عنها العريس: «أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ، عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ، يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ.» (نش 4: 12). ونلاحظ، أنه حتى عندما مات لعازر أخوها، لم تستخدمها. فالرب أغلى عندها من الكل. كما قال الرب: «مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (مت 10: 37). فهل لدينا مخزون من طيب التكريس نقدمه للرب وحده في حينه؟

ثانياً: كسرتها:

لكي لا تُبقي منها شيء لغيره، ولا تترد في تقديمها. كما هو مكتوب: «أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ.» ( مز 118: 27). فكثيرًا ما نقدم للرب ثم نرجع فيما قدمناه. «إِذَا نَذَرْتَ نَذْراً لِلَّهِ فَلاَ تَتَأَخَّرْ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ. لأَنَّهُ لاَ يُسَرُّ بِالْجُهَّالِ. فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَهُ. أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ.» (جا 5: 4، 5). فليتنا نكسر مع مريم الكل لأجل ذاك الذي كسر قلبه لأجلنا علي الصليب، إذ قال: «العار قد كسر قلبي فمرضت». (مز 69: 20). إن قطعة من الفولاذ لا تزيد عن 5 جنيهات. لكن، متى صنعوا منها إبراً للخياطة، ارتفعت قيمتها إلى 50 جنيهًا. وإذا استخدمت لصنع تروس للساعات، ارتفع سعرها إلى 50 ألف جنية. فالثمن يزداد مع الصقل والتكسير والبرادة. فهل تسمح بيد الرب معك للتشكيل؟ فكثيرًا ما نجد الربط في الكتاب بين الكسر والبركة.

مثلاً، عند نصرة جدعون مكتوب: «فَضَرَبَتِ الْفِرَقُ الثَّلاَثُ بِالأَبْوَاقِ وَكَسَّرُوا الْجِرَارَ» (قضاة 7: 20). وفي بركة يعقوب: «فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ. وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. وَقَالَ: “أَطْلِقْنِي؛ لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ”. فَقَالَ: “لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي”. فَقال لَهُ: “مَا اسْمُكَ؟” فَقَالَ: “يَعْقُوبُ”. فَقَالَ: “لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ؛ لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ والنَّاسِ، وَقَدِرْتَ”» (تك 32: 24- 28). وأيضًا في إشباع الجموع: «فَأَمَرَالْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ والسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ. وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ» (مت 14: 19).

ثالثًا: دهنت بها:

(أ) رأسه: فهو الملك، بل ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ16:19). إن كنت لا تستطيع أن تعطي، فاطلب منه أن يأخذ قلبك. فهو يستطع أن يخلق من طبيعتنا التافهة الفقيرة، إناءً صالحًا مستعدًا لتمجيده وخدمته، وسلاحًا يمسكه بيده، وتاجًا لجبينه.
(ب) قدميه: فهو الله الظاهر في الجسد (1تي 3: 16)، والذي بموته فداني. فهو بحق يستحق تقبيل قدميه (لو 7: 38). فإما أن أكون لصاً وأحتفظ بذاتي لذاتي؛ وإما أن أكون أمينًا، فأقدم كل شيء عند قدميه. فإن كان المسيح قد مات لأجلي، فليس من تضحية يحق لي أن أبخل بها عليه.

رابعاً: مسحت قدميه بشعر رأسها:

فإن كان شعر المرأة مجدها (1كو11: 15)، فهي تضع مجدها عند قدمي السيد.

خامساً: امتلأ البيت من رائحة الطيب:

التكريس له صورة خارجية، ورائحة واضحة للآخرين. مكتوب: «وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ لِلَّهِ» (2 كو 2: 14، 15) .

سادسًا: لم ترد على المقاومين:

مثل: مرثا، ويهوذا ، وباقي التلاميذ. فلقد علمها التكريس أن تكون مثل الرب يسوع، «الَّذِي إِذْ شُتِمَ، لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا. وَإِذْ تَأَلَّمَ، لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ. بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1 بط 2: 23).

سابعًا: صنعت هذا للتكفين!:

فهمت القيامة قبل الموت، وقبل أن يفهمها الرسل. ولم تضيع الفرصة، مثل المجدلية التي أتت بالطيب لتكفن الرب بعد فوات الآوان؛ بعدما قام الرب (مر 16).
إن التكريس من أهم المبادئ لمعرفة فكر الله «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِرَأْفَةِ اللهِ، أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً، عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ؛ لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ»(رو 12: 1- 2)
الكل انتقد ما فعلته تلك المرأة بإتلافها الطيب عند قدمي يسوع، ولكن ما أرق الرب يسوع! الذي يدافع عنك في تكريسك حتى إن لم يفهمك أقرب الناس إليك؛ إذ قال: «اتركوها». واهتم بسلامها قائلاً:«لماذا تزعجون المرأة؟» ثم مدح عملها: «عملت بي عملاً حسنًا!» وكشف أكذوبة الفقراء: «الفقراء معكم في كل حين». وكشف سر عملها: للتكفين حفظته. ومدح عطاءها كل ما عندها, وكافأها عندما أعلن: «حينما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها.»

الدرس في عبارة واحدة:

العالم والمؤمنون الذين يسلكون بالجسد يعتبرون التكريس إتلافًا. لكن، ما أعظم تقدير الرب له!

صلاة:

أيها الرب يسوع، إني أتوجك علي عرش قلبي، وأكسر كل غالِ عند رأسك الذي تكلل بالشوك لأجلي، وقدميك اللتين ثقبتا بالمسامير عني، وأمسح بكل ما اعتبره غالِ في حياتي، قدميك الكريمتين، وأقبلهما. آمين.