تبدأ القصة عند ولادتي، فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر، ولم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا

وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا ًمن الأرز لنأكله ويسد جوعنا، كانت أمي تعطيني نصيبها وبينما كان،

تحوِّل الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول: يا ولدي تناول هذا الأرز،

فأنا لست جائعة. وكانت هذه كذبتها الأولى

وعندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شئون المنزل وتذهب للصيد في نهر غير بجوار منزلنا،

وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قد تساعدني على أن أتغذى وأنمو،وفي مرة من المرات استطاعت

بفضل الله أن تصطاد سمكتين،أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمامي فبدأت أنا أتناول

السمكة الأولى شيئا فشيئا،وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك،فاهتز قلبي لذلك،

وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها، فأعادتها أمامي فورا وقالت: يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا،

ألا تعرف أني لا أحب السمك وكانت هذه كذبتها الثانية

وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة، ولم يكن معنا من المال ما يكفي مصروفات الدراسة ،

ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هي بتسويق البضاعة

بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس على السيدات،وفي ليلة شتاء ممطرة ، تأخرت أمي في العمل

وكنت أنتظرها بالمنزل ، فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة ،ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب

البيوت ، فناديتها: أمي، هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في

الصباح،فابتسمت أمي وقالت لي: يا ولدي ..

أنا لست مرهقة. وكانت هذه كذبتها الثالثة

وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة، أصرت أمي على الذهاب معي، ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي ،

في حرارة الشمس المحرقة،وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها فاحتضنتني بقوة ودفء وبشرتني،

بالتوفيق من الله و وجدت معها كوباً فيه مشروب كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي، فشربت حتى ارتويت،

وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه، فأعطيتها الكوب على الفور

وقلت لها: اشربي يا أمي، فردت : يا ولدي اشرب أنت،

 أنا لست عطشانة ..وكانت هذه كذبتها الرابعة

وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة، وأصبحت مسئولية البيت تقع عليها وحدها،

ويجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات،فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وصرنا نعاني الجوع، كان عمي رجلا طيبا وكان،

يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا،وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ، نصحوا أمي،

بأن تتزوج رجلا ينفق علينا فهي لازالت صغيرة،ولكن أمي رفضت الزواج قائلة:

أنا لست بحاجة إلى الحب … وكانت هذه كذبتها الخامسة

وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة، حصلت على وظيفة إلى حد ما جيدة وبجانب عملي ،

هذا واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجيستير،وبالفعل نجحت وارتفع راتبي، ومنحتني الشركة

الألمانية التي أعمل بها ،الفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا، فشعرت بسعادة بالغة،

وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة،وبعدما سافرت وهيأت الظروف، اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي

للإقامة معي، ولكنها لم تحب أن تضايقني وقالت: يا ولدي ..

أنا لست معتادة على المعيشة المترفة .. وكانت هذه كذبتها السادسة

كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة، وأصابها مرض السرطان اللعين ، وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها،

ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد،تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا، فوجدتها طريحة الفراش ،

بعد إجراء العملية عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة،

ليست أمي التي أعرفها، انهمرت الدموع من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسيني فقالت:

لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم .. وكانت هذه كذبتها السابعة

وبعدما قالت لي ذلك، أغلقت عينيها، ولم تفتحهما بعدها أبدا.تفانت هذه الأم،

أنفقت وأُنفِقتْ لأجل ولدها، وهذا دليلاً واضحاً لمفهوم البذل والعطاء حتى الفناء.

فهذه المشاعر إنما هى ممتدة من مشاعر قلب الله الأبوي، فهو من قيل عنه

“الذي من اجل السرور الموضوع امامه، احتمل الصليب مستهينا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله” (عبرانيين 2:12)

هذه هي الصورة التي يجب علينا أن نعيشها ونمارسها مع بعضنا البعض، فكما ضحى الابن بنفسه لأجل البشرية،هكذا تعلمنا كلمة الله أننا عندما نقدم ذواتنا لله، فهذا تعبيراً وتقديراً لما فعله هو لأجلنا.يقول القديس يوحنا “نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً” (1يوحنا19:4)

تأليف /رجاء عزت