كنا أربعةُ أطفالٍ صغارٍ…تحلقْنا حولَ أمي،نشكو ألمَ الجوعِ ونسألُ الطعامَ…هدَّأَتْ أمي من روعِنا،وركضتْ تعدُ لنا طعامَنا..أشعلَتْ أمي النارٓ، وجهزتِ الوعاءانحنَتْ أمامَ عُشِّ الدجاجِ أخرجَتْ منها واحدةً، دونما أيِّ عناءٍ!!!انتصبَتْ أمي مُمسِكَةً بها وهي تُبشرُنا،بأنها حالا ستُطعِمُنا، ستَنْهي لنا جوعَنا…وضَعتْها أمي في مكانِ الموتِ…ومضَتْ تختارُ السِّكينَ وتحددُها..
ظلتْ عينايَ زائغتانِ،تروحانِ وتجيئانِ،بينَ الدجاجةِ والسكينِ،يتقاذفُني وجعانِ،وجعُ الجوعِ…ووجعُ الحزنِ على الكائنِ المسكينِ…لكنها كانتْ واقفةً مزهوةً!!!تمدُ عُنُقَها للأمامِ بقوةٍ!!!تطلقُ صيْحاتِها كغُنْوَةٍ!!! زادَ عندي وجعُ الحزنِ، على وجعِ الجوعِ…وقلتُ في نفسي: مسكينةٌ! حتما تجهلُ ما يروعُ…وبينما أمي مشغولةٌ، تحددُ السكينَ،ربَتُّ بحنانٍ عليها،وهمستُ بصوتٍ حزينٍ:ألا تخافينَ الموتَ والسكينَ؟؟أم أنكِ تجهلينَ؟؟أبرقَتْ عيناها وقالتْ بتحدي الواثقينَ:يالكَ من ساذَجٍ صغيرٍ!!!بموتي يتحققُ وجودي ويكتملُ..فكيف يهينُ مني العزمُ أو يلينُ؟؟؟
علتِ الدهشةُ وجهي…فأشفقتْ هي على جهلي…وقالتْ بإباءِ القديسينَ:لمْ أُخلَقْ للشيخوخةِ والتحللِ والعدمِ…لمْ أُخلَقْ لأعيشَ،حتى يضمُرَ اللحمُ،ويجفُّ العظمُ ويسقطُ الريشُ…لمْ أُخلَقْ لأتجملَ وأُسجَنَ في قفصٍ…فُرجةً لكلِّ لاهٍ زائغِ البصرِ…خُلِقْتُ لأُطعمَكم في حياتي …. وبموتي…كنتُ أتوجَّعُ كلَّ صباحٍ،وأُكثِرُ من الصياحِ،حتى أضعَ لكم ثمرَ أحشائي،ثم أهدأَ قابعةً في مكاني،أتخففُ من أوجاعي،إذْ أرقُبُكم بهناءٍ تلتهمونَ ثماري…لكنه لمْ يكنْ يكفيني،وظللتُ في حنيني،اترقبُ تلكَ اللحظةَ المنشودةَ،حينَ أحتفلُ وأرقصُ مذبوحةً…عندَها لنْ أعطيَكم أثماري،بل أعطيَكم نفسي…عندها لن تأكلوا مني …. بل تأكلونَني…عندها سأطفئُ جوعَ الصغارِ،وأشدُّ عودَ الكبارِ،أفنى فيكم فأبقى..لا أبقى في عُشِّي فأفنى…إما بقاءٌ ففناءٌ…أو فناءٌ فبقاءٌ.. لكني اخترتُ أَنْ أفنى فيكم فأبقى،أبقى فيكم لحمًا فتيًا.. وعظمًا قويًا..أبقى فيكم نشاطاً، وجمالاً، وعملاً…أبقى فيكم شعوراً، وفكراً، وشعراً…غمرَني سيلُ الأفكارِ…
سألتُها بانبهارٍ:من علَّمَكِ هذه الأسرارَ؟؟؟قالتْ:علمَتْنِي إياها أمي ونحن نلتهمُ الطعامَ…قالتْ: اسمعي وافهمي يا بنتي معنى الوجودِ وقيمةَ الأيامِ…انظري…انظري، كيف تموتُ الحبَّاتُ في بطونِنا راضيةً،لكي نحيا نحن بموتِها حياةً مُجديةً…مِنَ الْحبَّةِ تعلَّمي يا بنتي المحبةَ..تموتُ الحباتُ في بطونِنا… لنحيا نحن،وتدورُ دورةُ البقاءِ…. ثم يأتي دورُنا،يأتي دورُنا،لنموتَ نحن في بُطُونِ البشرِ فيحيوا…البشرُ العظامُ، صغارٌ وكبارٌ، يحيَوْنَ يا بنتي بموتِنا…نموتُ من أجلِهِم لنبقى فيهم وبِهِم…تركتُها ساهمًا، وذهبتُ للعُشِّ،انحنيتُ أمامَ حبةٍ كانتْ عتيدةً أَنْ تموتَ سريعًا في بطنِ دجاجةٍ أخرى،وسألتُها باتضاعٍ:نبتِّ خضراءَ بهيةً…وما كِدْتِ تلمعينَ صفراءَ ذهبيةً…حتى قطعوكِ… وأتَوْا بكِ إلى هنا… لتموتينَ راضيةً؟؟؟
ممن تعلَّمْتِ المحبةَ، أيتها الحبةُ الذهبيةُ؟؟؟قالتْ؛علَّمتْني إياها أمي، الحبةُ الكبيرةُ…حينما قبِلَتْ أنْ تقعَ في الأرضِ وتَمُتْلكي لا تبقى وحدَها كسيرةً…لقد ماتتْ أمي في الطِّينِ وحيدةً،فجئْنا نحن ثمرَها….. آلافًا كثيرةً!تركتُ الدجاجةَ والحبةَ وذهبتُ بخيالي لحقلٍ…رأيتُ آلافَ الحباتِ الأمهاتِ…جميعُهن بفرحٍ مستعداتٍ…ليقعْنَ في الأرضِ، ويموتَنَّ في الطينِ…سألتُ واحدةً منهن:بعدَ قليلٍ سيأتي موتٌ ودفنٌ…كيف لا يملؤكمُ الخوفُ والحزنُ؟؟؟نظرتْ إليَّ باندهاشٍ وقالتْ:عُدْ بعدَ أيامٍ قليلةٍ أيها المسكينُ،وانظرْ لمكانِ موتِنا وأخبرْ إنْ كنتَ ترى جبَّانةً أم جنةً؟؟؟
ثم نظرتْ لأختِها وقالتْ متحسرةً:لم يزلْ بنو آدمَ أغبياءَ…يدورونَ حولَ أنفسِهِمْ فيوقفونَ دورةَ الوجودِ والبقاءِ…يريدونَ الكلَّ من أجلِهِمْ،ويبخلونَ بأنفسِهِمْ على الكلِّ!!!منذُ أيامِ الشجرةِ إياها عصَوْا،اختارُوا أنانيتَهم وقَسَوْا رفضُوا شريعةَ السماءِ!!!فلم يبقَ لهم سوى اللعنةِ والشقاءِ…جاءهمُ الخالقُ بذاتِهِ،وعلَّمَهم بموتِهِ،أنَّ هذه هي شريعةُ خلقِهِ،شريعةُ حبِهِ،طبَّقَها حتى على نفسِهِ!!!سكبَ للموتِ نفسَهُ وهو نبعُ الحياةِ…صنعَ الفداءَ، لتدورَ الدورةُ، ويكتملَ الوجودُ، ويزدهرَ البقاءُ…لكنهم ما زالوا أغبياءَ،بينما يتشدقونَ بالذكاءِ،يُكْثِرونَ الكلامَ،وهم يعيشونَ الأوهامَ…
أفقْتُ على صوتِ أمي تُنادي هيا هيا للطعامِ، الدجاجةُ تناديكُم تقافزَ إخوتي ابتهاجًاورحتُ أنا واجمًا جلستُ بينَهم ساهمًا فمي يمضُغُ طعامي وعقلي يجترُّ حواراتي،أكلتُ نصيبي، ربعًا من صدرِ الدجاجةِ…ماتَ عندي وجعُ الجوعِ،وماجَ وجعٌ جديدٌ بينَ الضُّلوعِ…لم تزلْ وقفتُها ممشوقةً، ورقصتُها مذبوحةً، يملأنَ خيالي…لاحتْ مني الْتِفَاتَةٌ للعُشِّغابتْ النبيلةُ عن عُشِّها…صارَ عُشُّها خاليًا منهالكنها صارتْ هي باقيةً فيّٓ..غابتْ، لكني لم أزلْ اسمعُ صوتَها الراقي،ينادي في أعماقي،إما بقاءٌ ففناءٌ،أو فناءٌ فبقاءٌ،اخترتُ أنْ أفنَى فيكُم فأبقىلن أبقى في عُشِّي لأفنَى،.وسمعتُ وراءَها الحبةَ،ترددُ أنشودةَ المحبةِ،إن لم تمُتْ الحبةُ،ماتتِ المحبةُ…
د. ماهر صموئيل
اضف تعليقًا
يجب logged in لكي تضيف ردا.